
الانهيار السريع والمفاجئ للجيش الأفغاني، ونجاح حركة طالبان في فرض سيطرتها على أغلب المدن والبلدات الأفغانية، وصولاً إلى العاصمة كابول، إلى جانب اغتنامها لأسلحة ومعدات عسكرية أمريكية بمئات الملايين من الدولارات، يعيدنا سريعاً إلى ذات المشهد في العراق، عام 2014، عندما نجح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في بسط السيطرة على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، دون أية مقاومة تذكر.
تكرار المشهد ذاته بفارق ست سنوات، مع اختلاف المنطقة الجغرافية والعناصر المنفذة، دفع كثيرا من المحللين، وحتى بعض السياسيين، إلى إعادة تبني فكرة «المؤامرة» الغربية المستمرة باستغلال التنظيمات المتطرفة ضد الدول والشعوب العربية والإسلامية.
في المشرق العربي عانى الجميع ما عاناه من الوجود الداعشي، والذي لم تقتصر تأثيراته على العراق وسوريا فحسب؛ بل امتدت أيضاً إلى العديد من دول المنطقة، بما فيها دول الخليج العربية، والتي شهدت عمليات إرهابية ومحاولات زعزعة الأمن والاستقرار، وهو ما طال أيضاً كبرى عواصم العالم ومن ضمنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
اليوم ومع سيطرة حركة طالبان على الأراضي الأفغانية، وبعد عشرين عاماً من الغزو الأمريكي وما تحقق من خسائر بالأرواح وما يقرب من ترليون دولار، والفشل في تحقيق ما تم الترويج له من أهداف، من الطبيعي أن نعيد السؤال القديم الجديد عن تأثير كل تلك التطورات على المنطقة العربية؟ وهل من المبرر أن تبدأ دول المنطقة بالقلق من احتمالية انعكاس كل تلك التطورات على أمنها؟ وهل من خطوات جادة وعملية يمكن اتخاذها لتقليل تلك التداعيات إن وجدت؟
تاريخياً؛ فإن العلاقة التي تربط أغلب الدول العربية، وخصوصاً منظومة دول مجلس التعاون، مع أفغانستان قديمة للغاية، والتي بنيت في الأساس منذ الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والذي بدأ فعلياً عندما نصب الاتحاد السوفيتي «بابراك كارميل» رئيسا لجمهورية أفغانستان الشيوعية في السابع والعشرين من ديسمبر عام 1979، وهو بالمناسبة العام ذاته الذي تمكنت فيه الثورة المضادة للشاه من الاستيلاء على السلطة في إيران بقيادة الخميني.
ومع بداية المقاومة الأفغانية للوجود السوفييتي في بلادهم؛ والتي تشكلت تحت عنوان إسلامي براق «الجهاد»، بقيادات دينية وقبلية وتنظيمات إسلامية، ما دفع الآلاف من الشباب العربي، للسفر إلى أفغانستان والمشاركة في الحرب هناك، إلى جانب ما وفرته الحكومات من تغطية لهذه المشاركة، والتي كانت تتم بتخطيط وتنظيم من المخابرات الأمريكية والباكستانية، إلى جانب المساهمة الرسمية العربية في تمويل شراء الأسلحة.
ومع طول أمد الصراع بين التنظيمات الأفغانية / العربية مع الاحتلال السوفيتي تشكل نوع من العلاقة الوثيقة مع معظم الدول العربية، سواء على المستوى الأهلي أو على المستوى الرسمي، والذي سعى بشكل واضح لتحقيق هدف واحد وهو القضاء على الوجود الشيوعي في الأراضي الأفغانية، وهو ما تحقق بالفعل.
لكن العلاقة الرسمية العربية مع طالبان سرعان ما توقفت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، وبداية الغزو الأمريكي لأفغانستان، إذ بعد ما حققته الولايات المتحدة من نجاحات في بداية الغزو من إنهاء سلطة طالبان وتسديد ضربات موجعة للتنظيمات الإسلامية، وخصوصا تنظيم القاعدة، بدأت دول المنطقة تعاني من ارتدادات هذا التحول، فنشطت الجماعات الإسلامية المسلحة في الكثير من الدول العربية من الأفراد الذين شاركوا في حرب أفغانستان، والتي تبنت أيديولوجيات دينية / سياسية متطرفة، فبدأت في تنفيذ عمليات إرهابية ضد أهداف عسكرية ومدنية راح ضحيتها المئات، بل ونجحت في استقطاب المزيد من الشباب في أكثر من منطقة، فتشكلت العديد من التنظيمات التي تبنت ذات الأيديولوجيا وبايعت زعيم التنظيم آنذاك، أسامة بن لادن.
اليوم وبعد مرور عقدين من السيطرة الأولى لطالبان على أفغانستان، وعودة الحركة من جديد؛ من الطبيعي أن يتم التعامل مع الوضع القائم بكثير من القلق والحذر، إضافة إلى الاستعداد لما يمكن أن يكون الأسوأ، وخصوصاً بعد ما تابعناه في الأيام القليلة الماضية من حديث البعض عن ـ«النصر الإلهي» و«الفتح المبين» الذي حققه مقاتلو طالبان.
إلى الآن؛ فإن الدول العربية تعاملت مع الوضع الجديد القائم بالكثير من الحذر والدبلوماسية، حيث لم تتجاوز بياناتها «الأمل في استقرار الأوضاع في أفغانستان»، ودعوة مختلف الأطراف إلى «تغلب مصالح البلاد وحقن دماء الأبرياء»، وهي السياسة ذاتها التي تبناها أيضا مجلس التعاون في قمته الأخيرة في العلا، يناير 2021، حيث أكد «أهمية استعادة الأمن والاستقرار في جمهورية أفغانستان الإسلامية، بما يحقق آمال وتطلعات الشعب الأفغاني الشقيق، ويعود بالنفع على الأمـن والسلم الإقليمي والدولي», إلى جانب مباركته «توقيع اتـفاق السلام بـين الولايـات المتحـدة الأمريكية وحركـة طالـبان في فبراير 2020م، وانطلاق مفاوضات السلام الأفغانية في سبتمبر 2020م، معبراً عن الأمل في أن تحقق هذه الخطوات الوقف الشامل والدائم لإطلاق الـنار، واستعادة أفغانستان أمنها واستقرارها، وتحقيق آمال وتطلعات الشعب الأفغاني في التنمية والازدهار».
الدبلوماسية الخليجية، التي يمكن وصفها بـ«الحذرة»، لا يمكنها وحدها بث تطمينات لكافة دول المجلس حول مدى تأثرها بمجريات الأحداث الأفغانية.
تداعيات كثيرة يمكن أن نقرأها من الصيرورة التاريخية وما تعلمناه في العقود الماضية، أولها أن «الانتصار الطالباني» سيعيد بلا شك للتنظيمات الجهادية الأمل الذي فقدته بعد هزيمة تنظيم داعش في العراق وسوريا، وهو الأمر ذاته الذي قد يفتح شهية «الذئاب المنفردة» للاحتفال بهذا «النصر» على طريقتهم الخاصة، والتي لا تخلو من الدماء. وهو أمر عايشناه بشكل واضح أكثر من مرة، سواء ما بعد الاندحار السوفيتي في أفغانستان وبعد انتصار الثورة الخمينية في إيران، كذلك بعد احتلال تنظيم داعش لمساحات شاسعة في العراق وسوريا وإعلانه إمارات متفرقة في ليبيا ومناطق أخرى.
دون شك فإن نشوة وتداعيات انتصار طالبان لم تطل التنظيمات الإسلامية السنية فحسب؛ بل تمتد أيضاً إلى التنظيمات الشيعية، وهو ما كان واضحاً في مسؤوليها سواء في العراق أو لبنان أو اليمن، وهو مؤشر آخر على دول المنطقة أخذه بعين الحسبان، حيث كسر هذا «الانتصار»، ولو بشكل محدود حدة العداء المذهبي بين التنظيمات المتطرفة، والذي لا يمكن تبرئة النظام الإيراني من ذلك.
إلى جانب التنظيمات الدينية السنية – الشيعية، فقد ساهمت سيطرة طالبان على الأراضي الأفغانية في رفع عقيرة أصحاب الأيديولوجيات غير الدينية، والذين استغلوا المناسبة للترويج لحتمية انهزام معسكر الاستعمار الغربي، الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، مع استدعاء مقاربات واضحة من الخروج المذل للقوات الأمريكية من فيتنام منتصف سبعينيات القرن المنصرم.
أحد التخوفات المشروعة للدول العربية ما يمكن أن توفره حركة طالبان من ملاذات آمنة لتنظيمات وأفراد مصنفين على قوائم الإرهاب، أو صدرت بحقهم أحكام قضائية في بلدانهم، وهو ما عايشه العالم أبان أحداث 11 سبتمبر، حيث رفضت الحركة تسليم زعيم القاعدة آنذاك، أسامة بن لادن، بل ودخلت في حرب طاحنة مع أمريكا وحلف الناتو وخسرت سيطرتها على السلطة، وهو ما يمكن أن يتكرر مع زعامات وتنظيمات جديدة، مثل القيادات الجديدة للقاعدة أو داعش أو حتى تنظيم «ولاية خراسان»، وإن كانت طالبان قد أعربت عن رفضها له.
التخوف الحادث من سيطرة حركة طالبان على أفغانستان لا يقتصر على أوضاعها الأمنية والسياسية الداخلية فحسب، وإن كان ذلك على رأس أولوياتها، بل يمتد ليشمل تأثيرات هذه السيطرة على حلفائها من الجوار الأفغاني، خصوصاً باكستان والهند وبدرجة أقل الصين وروسيا. فأي اضطرابات قد تحدث في هذه الدول سيكون لها انعكاسها على دول المنطقة العربية، سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية، وهو ما قد يحمل بعض الدول العربية تكاليف إضافية ليست مستعدة أن تدفعها في الوقت الراهن.
وأخيراً.. ما هو المطلوب للتخفيف من تداعيات تطور الأوضاع في أفغانستان والتقليل من أية أخطار أمنية محتملة؟!
لا شك أن دول الخليج العربية على سبيل المثال بما تملكه من قوة اقتصادية مؤثرة ودبلوماسية معتدلة، إضافة إلى ما تتمتع به المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص من مكانة دينية، كل تلك العوامل يمكن أن تعيد تأهيل المنظومة الخليجية للتعامل مع الوضع الجديد، ومحاولة التقليل من آثارها السلبية التي سردناها سابقاً. إلى جانب تعزيز شراكاتها مع دول الجوار الأفغاني والقوى المؤثرة على الأرض.
الهدوء والاستقرار في أفغانستان يجب أن يكون أولوية عربية وخليجية، كما هو مصلحة عليا للجميع، من دون أي تكرار لأخطاء قد تكون وقعت سابقاً وتركت آثارها الواضحة إلى اليوم.
عن جريدة أخبار الخليج البحرينية